قصتي مع نجيب محفوظ

ها أنا أقف قبالة رف عليه عدد من أعمال نجيب محفوظ، أخذت بعضها وتصفحته، اللص والكلاب، وبلا بداية ولا نهاية، وأبصرت فتى في وسط مراهقته يقف في المطار، وحقيبته على الأرض، وفوقها الأعمال الكاملة لمصطفى لطفي المنفلوطي، وخمَّارة القط الأسود. كنت ذاك الفتى قبل عشرية كاملة، سألني أربعيني سوري بلهجته اللذيذة هل أدرس الأدب، فأجبته نافيًا، وعزوت السبب إلى الحب والاهتمام، كان ذلك قبل فشو كلمة الشغف.

المنفلوطي أولًا:

كانت تلك أولى أيامي في القراءة، وقد بدأت مع المنفلوطي الذي قرأت أكثر ما كتب وحرر من النصوص، النظرات والعبرات، وروايات ماجدولين، والشاعر أو في سبيل التاج. ومن الضروري أن أطلعك يا صديقي على بعض الملابسات التي جعلتني أعشق المنفلوطي وألقب نفسي بالمنفلوطي الصغير عندما سجلت في أحد المنتديات الأدبية.

في تلك السنوات لم يكن عصر الإنترنت قد استوى، إنما كان في مطالعه، في العام نفسه 2007 أو الذي أعقبه، دخل DSL إلى بيتنا ليقطع طنين الهاتف عند الاتصال بالإنترنت بسرعة 64 كيلو بايت، كانت الأيقونات تنسدل ببطء شديد، أي حتى يكتمل ظهور المنتدى، بوسعك أن تضع البراد على النار، وتذهب إلى البقالة لشراء نعناع، وتعد الشاي وترتشف من كأسك، وتأخذ نفسًا أو اثنين ثم يتم تحميل المنتدى، ولكن هيهات هيهات، فلا أبرح مكاني مستمتعًا بكل ثانية انتظار على نغم الطنين، فإني أفتح العالم أمامي، عالم بلا حدود، لم أعلم حينها بوجود كتب بصيغة pdf مرفوعة مجانًا، ففي مدينتي لم تكن ثمة مكتبة، إنما قرطاسيات لبيع مستلزمات الدراسة، تطلق على نفسها اسم مكتبة على سبيل الفأل أو المجاز.

الافتتان اللذيذ:

إذن كانت الأعمال الكاملة للمنفلوطي كتابًا نزل من السماء، كان كالركن الذي يستند إليه من سُجن دهرًا في كرة، أقبلتُ إلى الكتاب أغالب قراءته، لعسر أسلوب الرجل على مبتدئ في القراءة، أنتقل من النظرات إلى العبرات ثم الرواية الأولى فالثانية، أعيد قراءة الفقرة حتى أستوعبها، وأعب ما أقدر عليه من المفردات الجديدة، ومن الصور الرومانسية الباكية، حتى تسرب المنفلوطي تحت جلدي، حاكيت أسلوبه، وكنت أستعرض الكلمات الجديدة أمام أصدقائي وأقراني.

قست الأدب بالمنفلوطي وبما دوَّنه، والفصاحة بما كتبه، لقد سجنت نفسي فيه، وتلذذت بالحبس حتى زهدت في القراءة لغيره، بل كنت أرغم نفسي إرغامًا عليها، وكلما قرأت سطرًا أعدت صوغه في رأسي حسب أسلوب المنفلوطي، ولم يخرجني من حبسي سوى سيرة طه حسين الأيام، التي أثبت فيها نقده في حداثة سنه لأسلوب المنفلوطي، لقد ضربه العميد بمعوله، ضربة وأتمتت الباقي فخرجت، وبقي من المنفلوطي تحت جلدي في التشاؤم أو الواقعية كما أسميها.

العميد المخلص:

وإني مدين للعميد بهذا الفرج، وبين المنفلوطي وطه حسين تعرفت على عالم pdf فقرأت في صالون العقاد كانت لنا أيام لأنيس منصور، والأم الكبيرة لماركيز، وخمَّارة القط الأسود في نسخة ورقية، ولم أستسغ أيًا منها من بسبب اللغة، بل كنت أعيب على أنيس لغته الصحفية، فأين هو من بيان المنفلوطي، وكأن لا قلم إلا قلم صاحبي، وهذا غلو تبتُ منه، وفي الأم الكبيرة ألفيت أسلوب المترجم رديئًا ، وإني لأشك في دقة ترجمته، ولعل هذا ما جعلني أنفر من ماركيز حتى اليوم، ولم أقرأ إلا سيرته الذاتية، رغم محاولة قراءة الحب في زمن الكوليرا الذي استعرته من مكتبة الجامعة، وخريف البطريك، وأما مئة عالم من العزلة فليست منهما ببعيدة.

قبل الحديث عن العمل المحفوظي، سأخبرك كيف عرفت الرجل. كانت أمي تخبرني عن أسماء الأدباء في مصر، كتوفيق الحكيم، ونجيب محفوظ التي ظفر بنوبل، وما يعني فوزه بها، كان ذلك زمن فيه الأم المصدر الأصدق للمعلومات، وبهذه المعرفة منحت نجيبًا فرصة لمصاحبته مهما حدث.

أولى القوائم:

صادف أن سافرت إلى جدة وبحوزتي مبلغ من المال، أعددت قائمة كتب، أتذكر منها: الأيام لطه حسين، أنا للعقاد -لأقارن بين أسلوبي الرجلين-، وملامح المستقبل لمحمد الأحمري، والإسلام والاستبداد السياسي لمحمد الغزالي، في اليوم الذي أعقب وصولي استقليت أجرة وتوجهت إلى أقرب فرع لمكتبة جرير في الجامعة بلازا، وهناك وجدت الجنة التي تخيلها بورخيس، ولم يشوهها سوى أن نعيمها لا يٌنال إلا بالمال، وأن كثيرًا من أمنياتي المدونة في القائمة غير متوفرة! اشتريتُ ما وجدته، وبعض ما استحسنته وخمَّارة القط الأسود من أعمال نجيب محفوظ المتوفرة، اخترتها لعدد صفحاتها الكثير، ورخص سعرها مقارنة برواياته.

 بعد عوتي بأسابيع شرعت في القراءة، ومُنيت بخيبة أمل خففها علي توقعها، فلا أحد كصاحبي، أتممتها وأنا أعجب من لغته، ولم أتصور معنىً أبعد مما كنت ألمسه من أعمال المنفلوطي، وعجبت من فوزه بنوبل، لا سيما قصة ذلك القط الشامخ كوثن في حانة بين السكارى، والحقيقة أني أدركت القشور وربما أقل، لقد زهدت في محفوظ، من أجل أمي قررت منحه فرصة أخرى، تساءلت لماذا يؤمن الجميع ببراعته، ولم أمسك بحبال اقتداره، ولم أقترب حتى من عقدها، إذن من العدل اتهام نفسي -حينذاك- وقد فعلتُ.

فرصة ثانية:

اقتنيت روايته الكرنك لقلة سعرها، وقرأتها، ولم أفهم منها سوى ظاهر الأحداث العادية جدًا، تبدأ القصة من مقهى تديره راقصة معتزلة اسمها قرنفلة، يجتمع فيه شلة من الطلاب الجامعيين من مختلف التوجهات، ومثقفين وكاتب شهير، وزير نساء، وكل مجموعة تجلس لوحدها، تقبض أجهزة الأمن على الشلة على خلفية نشاطها الطلابي والسياسي، ويفرج عنهم ثم يعاد اعتقال عدد منهم، وينتهي الحال ببضعهم إلى الإرهاب ومقارعة الدولة. تسلط الرواية الضوء على الحقبة الناصرية وما اتسمت به من قمع وتعذيب، وما يحدثه السجن من ندوب في أرواح السجناء واعتلال في أجسادهم، وقد تصنع المعتقلات منهم مجرمين بائسين، نُشرت الرواية في عهد السادات ثم اقتبس منها فيلم له العنوان نفسه في الحقبة ذاتها، وشاهدته بعد ثمان سنوات، أي قبل أشهر وفهمت مغزى الرواية حينها أول مرة، أي لا زلت عاجزًا عن رؤية حرفته وقتئذ.

لغز محيَّر:

قرأت موسم الهجرة إلى الشمال التي دفعتني إلى التهام أعماله كثيرة الأعمال الكاملة التي أصدرتها دار العودة العريقة، ومنسي: إنسان نادر على طريقته، يحكي فيها يوميات ومواقف صديقه الفهلوي، كل ذلك بعد عابر سرير لأحلام مستغانمي، ظل لغز نجيب محفوظ حتى سألت من لا أتذكره عنه فأخبرني أن الرجل يكتب بعربية سهلة ميسورة، خلفها عبقرية كبيرة، بابها ثلاثيته: بين القصرين، وقصر الشوق، ثم السكرية، اشتريت الجزء الأول منها، طاب لي العمل، رغم طوله إذ قاربت الست مئة صفحة، هالني دقة بنائه الشخصيات، من حيث الملامح والتكوين النفسي، وتطورها حسب مراحل الرواية، ودقة وصف الحارة بالقاهرة القديمة، الشارع والأزقة المرصوفة، العمائم والطرابيش، وغناء الدراويش، وهتاف الباعة، وصوت عربية يجرها حمار يبلل ظهره العرق، وجرار الماء الباردة يكسوها الطل خلف المشربية، ويد حسناء تحملها وتتأرجح ضفائرها، ومزيج الروائح يحوي المكان، إن محفوظ ينقل الحياة كما هي إلى الورق، فتسري في الكلمات، لو ركزت فيها لأبصرتها تتعانق و تتنابذ وتعارك، بعض الكلمات قوي مهاب كسي السيد، وأخرى ضعيفة مهزوزة مثل أمنية.

نجيب الطود العظيم:

هنا بدأت أرى محفوظًا كطود البعيد، عملاق وغير واضح الملامح، إنه عظيم ولكن بلا تفاصيل، أي إحساس لا معرفة، خطوت الخطوة الأولى إلى حضرته مؤمنًا به، وبعد أكثر من عام، وفي زيارة أخرى لجرير قررت زيادة إيماني به فكان سوء حظي بالمرصاد، فلما لم أجد الجزء الثاني من الثلاثية قصر الشوق، ابتعت قشتمر، أقل رواياته سعرًا على الرف، وصادف في تلك المرحلة إطناب موضة القراءة السريعة، فطبقتها عليها، ولم أجدها كالسابقة لسرعة القراءة التي تركز على المعلومة لا التذوق والاستجلاء، ولأن الرواية من آخر ما كتبه فلم تكن من ذرى إنتاجه.

تحكي الرواية اجتماع أصدقاء طفولة في مقهى قشتمر، يروي كل بطل ما فعله في عقود عمره وما فعلته السنوات فيه، جمال الرواية في رؤية الأبطال من طفولتهم إلى مراقي الشباب ثم إلى مهاوي الشيخوخة، ما أنجزوا وعلى ما ندموا، وما أصابوا من ثمار الأمنيات الغضة، وخلفهم يتغير وجه حيهم العباسية، وتبدل الحياة ملامحها، ولا ثابت إلا الزمن وحده، كأنه وعاء كبير تمتزج فيه المكونات ثم يلقيها خارجه، وتدخله مكونات جديدة يمزجها ثم تلقى مصير سابقتها وهو هو قائم لا يبلى.

المحطة الأولى:

قشتمر محطة أخيرة، قبل التوقف عن قراءة أي عمل جديد لنجيب محفوظ لمدة عام أو أقل، وذات صباح في إجازة صيفية في سني الجامعة عنَّت لي العودة إليه، فالحل في pdf فقد هُديت طريقه، ولزمت دربه، مئات من الكتب المجانية، كان هذا قبل منعها نظاميًا. وقع اختياري هذه المرة على إحدى روايات نجيب في شبابه، فكانت خان الخليلي التي متعتني كثيرًا، وبكل حسرة لم أعد أتذكر منها شيئًا سوى إعجابي بها حتى أقول أأقرتها هي أم زقاق المدق؟ ولما عدت إلى صفحتيهما في ويكيبيديا ظننت أني قرأت الأولى لأن أحداث الأخرى لم أعرفها من قبل، ولما أعاود النظر تتراءى لي أحداث زقاق المدق أي أعود إلى المربع الأول في دور لا ينتهي، ومما زادني حيرة تشابه الرسمتين على الغلاف ولونيهما، المهم أنها كانت لحظات حلوة في أحياء القاهرة القديمة، سواءً مع عباس الحلو، أو أحمد أفندي عاكف.

الأنصاري يحل اللغز:

وبفراغي من خان الخليلي أو زقاق المدق، طالت الجفوة بيني وبين أعمال نجيب المحفوظ فناهزت الثمان سنين. في كثير من زياراتي للمكتبات أسأل عن الجزء الثاني من الثلاثية = قصر الشوق ولا أجده، حتى علمت بمنعها، صحيح أني زرت مرات معارض الكتاب بجدة والرياض، ولكني لم أغشَ جناح دار الشروق فقد أخبرني صديق عن باحث مصري قوله: تبالغ الدور المصرية في أسعارها في معرض الرياض حتى تغطي خسارتها في المعارض الأخرى، وحملت الارتفاع على معرض جدة، فلا أغدو إلى جناح دار مصرية ولا أروح إلا للضرورة التي أفلح في مراوغتها أو تأجيلها ومن هذه الضرورات قراءة الجزء الثاني قصر الشوق. ومن غنائم زيارة جناح المؤسسة العربية للدراسات والنشر في معرض الرياض 2014، اقتينت انتحار المثقفين العرب للدكتور محمد جابر الأنصاري الأكاديمي البحريني والقامة العروبية الباسقة، قارب الدكتور الأنصاري الانتحار المثقف العربي انتحارًا جسديًا ونفسيًا، كانتحار خليل حاوي برصاصة في رأسه وانتحار أبي حيان التوحيدي المعنوي بحرق كتبه، ومد حديثه ليتطرق إلى انتحار سارتر المعنوي في اعتراف نقلته خدينته سيمون دي بوفوار، وفي أحد الفصول قدم قراءة لخمَّارة القط الأسود التي تنتمي إلى ما سماه بالأدب الحزيراني، أي الأدب الذي تناول النكسة العربية في عام 1967، وكنت أتمنى لو نقلت ملخصًا لقراءته غير أني أعرت الكتاب لصديق منذ سنوات ولم يعده حتى اللحظة، الشاهد أني كدت أصيح طربًا وغضبًا من روعة القراءة ومن وصولها إلى تفاصيل صغيرة في العمل، وكيف وصف نجيب محفوظ حال الشعب ذي العقل المستلب، ودور السلطة وسيطرتها على الملايين، ووقتئذ اكتمل إيماني بمحفوظ وإجلالي للأنصاري، وإن لم أعد بعدها إلى محفوظ إلا بعد قرابة السنين السبع، فالفرق بين الروائي والجاد والسارد السطحي أنك تجد لدى الأول فكرة خلف كل قصة، وقراءة لظاهرة في قالب روائي، وأحلام فئة من المجتمع على لسان شخصية، ويتضح هذا عند محفوظ خاصة، إذ أزعم أن أعماله مكنز لدراسات سوسيولوجية تسلط الضوء على الحارة المصرية، أو المزاج العام للشخصية المصرية في حقبة ما، لاسيما عند معرفة قرب محفوظ من الشارع المصري وقضائه نصف العالم في قهوة بين رفاقه، وتفرغه للكتابة بقية العام، وفي الفترتين هو موظف حكومي أي التقى بالآلاف في حياته المهنية سواء في الأوقاف أو الرقابة الفنية أو السينما أو غيرها، متسلحًا بدراسته الفلسفة في الجامعة  وبثقافته وسعة اطلاعه.

بين يدي الثلاثية:

في هذا العام أهديتُ إلي قسيمة شرائية من متجر صفحات، وفيه لقيت ضالتي، فجمعتها قصر الشوق بمجموعة السيولة لباومان في سلة، ووصلتني إلى البيت بسعر لا يُنافس، وفي انتظاري وصول الرواية بحثت عن ملخص للجزء الأول أو وصف لشخصياته لأنشط ذاكرتي وأحيي أحداثه، وبفضل الله أفحلت في ربط أحداث الروايتين. عدت إلى الثلاثية بعد عقد أو يزيد، هذه المرة بعد قراءات غير قليلة وبعض المعرفة عن نجيب محفوظ، حياته وإنتاجه الأدبي. تنتمي الرواية إلى روايات الأجيال، تبدأ مع أحمد عبد الجواد في الخمسينيات من عمره، وزوجته أمينة، وياسين ابنه من زوجته الأولى، وفهمي، وشقيقيته خديجة وعائشة، وأصغرهم كمال، مع تسليط بؤرة السرد على الأب ورفاقه وحيواتهم بوصفهم الجيل الأول، وتنتهي الرواية الأولى بمقتل فهمي في مظاهرة مناوئة للوجود الإنجليزي بمصر، وتفتتح الثانية بعودة سي السيد ليلًا بعد سهرة وشرب مع العوالم، وقد شاخ قليلًا، وتنتقل البؤرة لنرى من خلالها ياسين وعربدته، وزواج أختيه، وعبور كمال عتبة المراهقة ومسمراته مع أصدقائه، ولو جاز -فنيًا- أن أقول إن كمال هو نجيب محفوظ لقلتُ. تتهادى الأسطر الأولى من السكرية بمطلع عبقري يوجز كيف أدار الزمن ظهره لبيت سي السيد ونكبهم وشتتهم بعد اجتماع وعز، بوصف يد عائشة التي شاخت واعرورقت قبل أوانها، وهنا ملمح لعبقرية محفوظية، مشهد واحد يوجز لك ما وقع في سنوات، ويكتمل خيط السرد في الجزء الأخير حيث ننتقل إلى الجيل الثالث، أسباط سي السيد من خديجة التي تقيم مع عائلتها في السكرية.

بعد عشر سنين:

لو قارنت بين قراءة الجزء الأول والثاني والثالث معًا لوجدت اختلافًا كبيرًا، في الإحاطة بالأحداث وما حوته من أفكار وآراء ونقد للمجتمع المصري في تلك العقود، وقد فتحتا شهيتي للقراءة عن نجيب محفوظ، فوجدت لدي كتاب العائش في السرد للدكتور رضا عطية، وفي الفصل الأول يتناول سرديات الأصوات المتعددة، وقد تناول روايتي ميرمار ويوم قتل الزعيم، حيث يتعاقب على سرد كل فصل الجد والابن وخطيبته وهم أبطال يوم قتل الزعيم، توقف قارئها على ما اقترفته سياسات الانفتاح في الحقبة الساداتية التي أودت بالطبقة المتوسطة، وميزة تعدد الأصوات جعل القارئ يرى الواقعة نفسها بعيون أشخاص من الطبقة نفسها التي عاش شبابها في فترات ممتابعة، فذاكرة الجد المحملة بالعيش في العهد الملكي تتكامل مع الأب الذي عاش مأساة النكسة، ورأى تشظي الأحلام الكبرى، أما عين الابن فتبصر ملاحقة العمر الذي أضاعه الفقر، فصار الزواج أمنية عسيرة. وتنتهي بمقتل الرئيس أنور السادات. كانت تجربتي هذه المرة استماعًا للرواية، وتفيد هذه الطريقة في التخييل إذ تريح العين من القراءة، ويبقى التحدي في السرحان المفاجئ الذي يقطع حبل السرد بين يديك.

معالم في المسيرة:

سأختار عددًا من روايات نجيب محفوظ لأجعلها معالم لتقسيم مسيرته الرواية كاجتهاد شخصي، كتب نجيب محفوظ الرواية التاريخية متناولًا في ثلاثيته التاريخية الأحوال الاجتماعية، وهي: عبث الأقدار، ورادوبيس، وكفاح طيبة، ثم كتب الرواية الاجتماعية، ومن أبرزها الثلاثية، وعندما قامت الجمهورية وظنها ستحقق أحلامه في الاشتراكية وستحل المشكلات الاجتماعية، كتب الرواية الفلسفية = أولاد حارتنا ولما خاب ظنه عاد إلى التناول الاجتماعي من بوابة الرواية السياسية ثرثرة فوق النيل، ثم ختم مسيرته الروائية بعمل اجتماعي خالص هو قشتمر. هذه قصتي مع نجيب محفوظ، ولم يبق لي طول المقال متسعًا لختام أفضل، سعيد بك يا قارئي في أمان الله.