ركضٌ في مساحات مبتكرة

قبل سنين متباعدة كالكثيب القصي تذرو الرياح ذاكرته رملًا، كنت ألهو بالكرة على مدخل البيت فأقبل أحد إخوتي لنلعب سوية، كنت أريد ركل الكرة لوحدي، فلا أحسن سوى سواه، صادف هذا وجود رجل بالقرب منا، فقال: "هيا تحاروا"، أي راوغا بعضيكما، العبا معًا، ليس مهم تذكر كيف احتلت على أخي وواصلت الركل. "تحاوروا" ساخت هذه الكلمة في رأسي حتى نبشها فيديو واتسابي شهير لمسن بإحدى محافظات منطقة جازان يثني على نجوم الكرة السعودية وجيلها الذهبي في مونديال أربعة وتسعين، يصف هدف سعيد العويران التاريخي في المرمى البلجيكي حيث انتزع الكرة وانطلق يرواغهم واحدًا واحدًا -أو يحاور كما يقول- وهم يتساقطون بزيهم الأحمر كالتفاح في كيس المشتري، حين سمعتها؛ انتفضت من بين مئات ألوف الكلمات في موضع مجهول.

 كرة القدم مراوَغة للوصول إلى مرمى يعرفه اللاعب والخصم والجمهور، لا أحد يجهله، وهناك مراوغات أخرى تشد الكرة فيها أنظار المتابعين ولا يدركون إلى أي هدف تتدحرج وقد يختلفون على موقع الهدف بصراخ حاد، ويتفقون على النظر مسلطًا على الأقدام، يحدث مثل هذا في الكتابة حيث يشد الكاتب تركيز قارئيه إلى فكرة ماثلة أمامهم كالشمس، وينطلق إلى فكرة خاطفة كالظلال عبرت فجأة، الكتابة ليست فعل كشف إنها اختباء ومخادعة إذا أمسكت بها فقد انتهى كل شيء.

لماذا نكتب؟" كتابٌ حررته الصحفية ميريدث ماران وترجمته تكوين، كان أول ما قرأته من إصداراتهم أو الثاني بعد "يوم في حياة كاتب" الذي ترجمه علي الزين ترجمة يربأ جوجل بنفسه عنها، وكنت قد نويت كتابة مراجعة له مع استلال نصائح التي يقدمها كل كاتب، وجمعها في مقال واحد مع ذكر مصدرها وكالعادة تكاسلت.

كان الكتاب حوارًا من سؤال واحد لماذا نكتب؟  وجدتُ أن عددًا من الكتّاب يلعبون الخفة بمهارة عالية يشيرون إلى جهة ويطلقون سهمًا إلى جهة أخرى، يمتلك الكاتب مؤثرات سحرية، اللعب بالكلمات وتسريع الإيقاع وتبطيئه، تسليط الضوء على موضع بعينه، كما يحدث في السيرك حيث تعزف الفرقة ويندفع سيل ضوئي من الكشافات على مكانٍ غير الذي تُحاك فيه الخدعة، ينتهي الحال بالقارئ مصفقًا كمشاهدي السيرك، الفرق الوحيد لصالحهم، فقد أتوا للاستمتاع بالخداع وأنا أتيت لمعرفة إجابة السؤال الذي يطرحها العنوان، لقد كانت محاورة كمحاورات كرة القدم.

كنتُ مهتمًا بما كُتب عن صنعة الكتابة لأكثر من سبب، الفضول والرغبة في الاستفادة من تجارب الكتّاب، فضول في معرفة كيف تتخلق الشخصيات وكيف ينسج الروائي الأحداث، أي ما يتفاعل في معامله السرية أو حديقته الخلفية التي لا يطلع عليها أحد، والسير الذاتية هنا تكشف الكثير، ففي سيرة جابريل غارسيا ماركيز "عشت لأروي" التي ترجمها صالح علماني، ذكر أحداثًا وقعت في بلدته، قرأتها في الأم الكبيرة قبل سيرته بثمانِ سنوات أو تزيد، الروائي لا يخلق عالمًا خالصًا من خيال إنه يمزج واقعًا راه وبآخر قرأه أو سمع عنه ويكون الخيال هو ما يسد به الفجوات  ويهب العمل هويته الخاصة. أما الاستفادة فهي في معرفة كيف يكون للكاتب روتين كتابة جاد ومستمر، وكيف يوظف مقروءه وكيف يحيى لوجه الكتابة إن صح هذا، ولست هنا في معرض تقييم ما قرأته ومقارنته بسماء توقعاتي.

ماذا لو طرحت على نفسي هذا السؤال لماذا أكتب؟ قد لا أجد إجابة شافية لي قبل غيري، لذا سأضع أسئلة أخرى قد تجرني إلى الإجابة على السؤال الأم، فالأسئلة تساعد الإجابات على التهام بعضها. بعد محاولات كتابية في البدايات صرت أعرف نفسي وأعرفها بالكاتب، أرها جزءًا من هويتي وتكويني، أنا وجود ناقص بلا كتابة، كينونة متأكلة ترممها الكتابة، تهديني إلى إجابات أسئلة قد تجتاحني بلا مقدمات، ولكن هل كل ما ظننته جزءًا أصيل مني كان كذلك؟ لو كانت الإجابة نعم لما كنت أنا الذي أعرف، قطعًا رجل لا أعرفه ولا يعرفني وإن تلاقينا اختلفنا وما ائتلفنا، الكتابة تهدي إلى القراءة، تشق فينا نوافذ تطل على مناظر لم نكن تخصنا نحن فقط، تصنع لنا عيونًا جديدة، عيون تبصر كل شيء، وتجبرنا على البحث عمن يستحق أن يشاهد معنا تلك المناظر، عمن يشبهنا، وعن صداقات الكتابة والأدب والشعر، ولا نهدأ حتى نلتقي بهم، ثم تتنازل لهم الكتابة عن جزء من تأثيرها علينا؛ فيعيدون تخطيط الحياة، فندخل في أحلى المتاهات التي لا نفكر بالخروج ومنها وقد لا نستطيع.

للكتابة نداء روحي خفي لا تسمعه أذن القلب ولا تبصر أثره العيون الجديدة، ولكن نشعر به، رغبة غامضة نحو التشييد والإعلاء أو حتى الحفر والغور بعيدًا، المهم ألا نبقَ حيث نحن، نتتبع الظلال والضوء نبحث فيها عن شيء نحن نخترعه ونعلم عدم وجوده هناك، ونصر على البحث ونحيا من أجله، ثم نجده، أحقًا لم يكن هناك أم غالطنا أنفسنا ووضعناه ثم وجدانه، هذا من الأسئلة التي تفسدها الإجابة، أهناك دليل أكبر من دليل من السهر لكتابة نصٍ لن لا يدر ريالًا واحدًا، سهر سيفضي حتمًا إلى تأخري عن دوامي الذي هو مصدر دخلي الوحيد، أعرف أن المنطق يوجب علي النوم، ولكنني لست في وعيي وأنا سعيد بهذا، أنا في خدرٍ لذيذ، إني تحت تأثير الكتابة، أسير في طريق رمادي بما الخط الأصفر، سأواصل السير متوكلًا على الصاحب في السفر والخلفية في القلب، إنها اللحظة التي سأختار فيها سؤالًا لأفسده؟ كيف أكتب؟ وكيف تتداعى الأفكار إلى رأسي؟ والإجابة التي أطمن إليها هي أني لا أعرف، لكن لا مانع من شيء من القفز والمحاولة، إنه قفز بلا زانة وبلا أرضية معدة، سأكتب السؤال الأول بخط أكبر: كيف أكتب؟

الكتابة لست فعل اقتراف إنها إنصات إلى وقع القدمين، إلى صوت الركض بين حقول أو على الشاطئ أو في مكان نبتكره لحظتها، أماكن ليس فيها شمال، ولا يشير إليها GPS  ثمة فكرة لا أعلم مصدرها ولا سبب إلحاحها، أأنا اخترتها أم هي اختارتني، وليس مهمًا أن أعرف، فكرة تطرق الرأس فنطاردها بين الكلمات والذكريات ونجتاح الخيال ولا نخرج منه مخففين كما دخلنا، دفقات من الدوبامين والانتشاء، كلمات ترمي بنفسها أمام قدمي فألتقطها وأدسها في فمي، معانٍ تتشبث بي أو أتعرقل بها، أدسها في جيبي، أواصل العدو وأنا أرتب الكلمات، أضع كل كلمة إزاء معناها المناسب، فتسقط كلمات وتهرب معانٍ بعيدًا، أألتفت بحثًا عنها أو لا ألتفت، ليس بيدي ولست من أقرر، في لحظة ما حاولت اتخاذ قرار فاشتبكت الكلمات والمعاني أمامي، وأنا أسابق نفسي لاهثًا، ومفكرًا فيمن سيراني، ماذا سيقول، تبًا لماذا أفكر في غيري، لابد من توسيع معجم شتائمي كي أقتلهم بها في نفسي على الأقل، يصيبني حب الركض الكلمات إجلالًا ومهابة فتستشري فيّ حالة من العجز أحيانًا، فأكره الجري وقد أعجز فجأة وينقطع نفسي دون جمع المزيد من الكلمات، أو قد يتعارك ما بقي منها وتحلق في قوس كالأسماك الطائرة، كيف أهرب وقد نسيت كيف أحرك قدامي، وكيف أبحث عن دروب جديدة أجربها، أو أجرب نفسي بها، ثم أسمي هذا الجبن انسدادًا، وأواصل الابتعاد، حتى اصطدمت بنفسي، ليست مصادفة، إنها دعوة في ليل، أعزو الانقلابات الحميدة في حياتي إلى دعوة دلها صاحبها على باب مفتوحًا في السماء فدخلت، والحمد لله مستجيب الدعوات.

يبدو أني وقعت في فخ المراوغة لقد راوغتني اللغة والرغبة، إنا ضحية المجاز ومحاورات الخيال.