القطارات والمطارات والمكيف الهرم!
لأن الناس -هذه الأيام- حساسون حساسية قصوى وجب التنبيه على التالي:
الكدادون الضاربون في الأرض بسيارتهم لجمع رزقهم الحلال قوم كرام يكدحون بإخلاص ونفس طيبة سمحة ومن أقربائي ورفاقي من امتهن هذا العمل الشريف.
أنا ابن جامعة الملك عبد العزيز وأكنَّ لها التقدير والحب وما أظهره أكثر فقد تعلمت من دكاترتها وانتفعت بمكتبتها ومرافقها وآواني سكنها الجامعي.
ـــ
كان الهودج يميل الهودج إلى اليمين إذا دمعت عين الظعينة اليمنى، وإلى اليسار عندما تدمع يسراها، وتمد الراحلة رقبتها عندما تشهق، هكذا في حركة دائبة حتى يأذن الله بالوصول، وكان الرماد والدمن شهود الأرض الذين يفضحون بصمتهم المطبق مسرات تولت.
كانت قوافل المسافرين وما خلفوه ثم صارت محطات القطار والموانئ والمطارات. وللأولى سحرها، ربما جاذبية الغياب والتخييل، فلم تكن القطارات من وسائل النقل المتوفرة حيث أعيش، كنت أراها في أفلام الكرتون وأفواهها تُحشى بالفحم الذي يصطرخ فيطرب القطار، وينفث دخانه بانتشاء، ويحدو نفْسه بصهيل معدني؛ فيحرره قائده لينطلق بسرعة وثقة رصاصة ستحقق العدالة، ميممًا وجهه إلى حيث لا يدري، يعدو متحررًا من كل قيد سوى سكته الحديدي وإرادته رجله الذي يكبت جماحه فيسطرصخ حتى تتحشرج أنفاسه ويجثو.
قطار بلا ذيل:
صعدت القطار بعدما أودى الخرَس بصوته، أو أن السأم استبد به لطول المسير فسكت، وتوقف عن نفث الدخان وصار صحيًا لا يتعاطاه، ونمى له رأس ثانٍ، فلا تعرفه له ذيلًا، ولم أرَ سبستيان فيه، ولا الدرجة التعيسة التي كان يختبئ فيها المشردون في أفلام الكرتون ولا السلال القادمة من الصعيد، والممتلئة بالأطعمة كامتلاء قلوب أصحابها بالبراءة، صعدت إلى مقصورة الدرجة الأولى، حيث النعيم والرفاهية سيدا الرحلة، طمأنينة تلف الأرجاء فلا تسمع إلا همسًا متجاورين، وجباهًا محنية على هواتفها سابحة في ملكوت بعيد، ثم تسمع أفواهًا تقضم ساندويتشات مقرمشة أو ملاعق تصطدم بالكأس وهي تدور فيه لتصلح بين السكر والشاي أو القهوة كي يذوبا ودًا، لون الشاي لا يشبه سلطة الفواكه في إنائها اللطيف، مكعبات صفراء وبيضاء وعنب أسود كالقهوة التي فضلت الأول عليها.
في تلك الرحلة وما تلاها لم أتأمل أرصفة القطار، ولم ألمح الحزن الذي يعتري المسافرين وذويهم، ولا القبلات التي يتولى الأثير إيصالها بسلام، ولم أرهم يلطخون وجه الحياة بشتائم لقسوتها وإجبارهم نزلاء قلوبهم على المغادرة إلى أماكن بعيدة، ولم أشاهد الأيادي التي تمتد من القطار لتتشبث بأخرى تقف على الرصيف.
قراءة في وجه المطار:
كثير من ذلك يحدث في المطارات التي اعتدتها واعتادت ترحالي بين نقطتين ولا أقول بين مدينتين، فكل مدينة لا تسكنها أسرتي منفى وغربة تطعمني لحمي، ترحال بين أهلي والغربة، حاولت قراءة وجه المطار فلم أجد له ملامح، إنه رخام أملس بارد بلا رائحة، يتمنى السائر في القيظ لو مس جبينه، ولو سار عليه البردان فسيضرب بطنه بإعصار قوي.
لماذا ترمى المطارات بلعنات المشتاقين، ولا ترفع بدعوات الموصولين؟ كل المطارات بلا رائحة سوى رائحة مقاعد الانتظار التي تقف على الحياد أو هي غائبة عن الوعي، لا تحتضن المودع، ولا تبالِ بفرحة العائد إلى مسقط رأسه ومطلع فؤاده، إلا مطارات الصغيرة فإنها تجمع القلوب المكسرة، ومنها مطار الملك عبد الله بجازان، يحضن جميع المسافرين ومرافقيهم، يقربهم من بعضهم حتى يملؤوا أعينهم قبل الوداع، من هذا المطار سافرت كثيرًا إلى حجاز الله، قريبًا من قبر رسول الأكرم صلى الله عليه وسلم، وجسده الطاهر، أسافر إلى جدة حيث حطت بي أقدار اللطيف طالبًا في جامعة الملك عبد العزيز.
في سنتي الأولى كان مغص مجهول الأسباب يحتل معدتي ولا ينسحب إلا بعدما تدفعه بقيء مرٍ من عصارتها يمتلأ به فمي حتى أذوق مرارته. من يقنع معدتي ألا ذنب لفمي فيما أصابها، وبعد ذلك نسيت المغص. من الأسفار التي لم أنسها سفري في الصيف الذي اضطررت لأجعله ثالث ثلاثة بعد فصلين دراسيين أطولا من عنق زرافة معمّرة.
البحث عن الأرخص:
ولأن قرارتي -دائمًا- في آخر اللحظات أحجز قبل سفري بأيام قليلة على أي رحلة وعادة تكون الرحلة الأولى المحلقة تلقاء جدة في يومها، وعادة ما تتأخر ساعة، فأصل بسبب دقة الناقل الجوي ضحى، ولا أخبر أحدًا من الرفاق بموعد قدومي لئلا أكون ثقيلًا على أكبادهم، فتتلقني وأنا داخل إلى صار المطار رعدة تقول: لقد تأخرت وبدأ الفصل الصيفي، ويزداد الأمور سوءًا عندما يسألني الكدادون عن وجهتي فيضاعفون السعر كأنهم سيوصلونني على بساط الريح، وقد علمتني التجربة الصعود إلى صالة القادمين فثمة سيارات أجرة أقلت مسافرين إلى المطار، وسيعودون بمقاعد خالية؛ لذا يقنعون بسعر عادل.
أرتقي إلى الصالة عبر المصعد ثم أتوجه إلى الخارج لأجد الشمس أول ما يستقبلني بحرارة لو زادت قليلًا لا أدري أي كارثة ستقع. في هذا الموقف يكون الحظ هو الفيصل، سأفترض أن ظفرت بكداد في وقت قياسي واتفقنا على السعر، فعادة سيطلب مني البقاء فيها حتى يأتي راكب آخر، فأصارع النوم الذي ما تلبس بجسدي منذ يوم خشية أن يغلبني على نفسي فتفوتني الرحلة، وفي المرات القادمة صرت أشترط على السائق ألا ننتظر فلو وجدنا راكبًا على الطريق أو نتوقف في وجهتي أو إذا صادفنا إشارة سيئة الحظ تقتص من وقتنا ثوانٍ ومن مزاجي الكثير، ومن المصادفات المزعجة أن يكون الكلام كثيرًا في فم السائق والعقل في رأسه قليل، فيتحدث كثيرًا ولا يفهم تلميحاتي وردودي المقتضبة، فيفتح فمه في المطار ويغلقه عندما أغلق سباب سيارته وأترجل إلى السكن الجامعي الذي تراكم علي إيجار الفصل الماضي ولم أجدد بطاقته لذا لا أجسر على إدخال سيارة الأجرة، فأجر شنطتي إلى غرفتي والشمس تصب غضبها على رأسي كأنها تتحدى النوم على من يضجرني أولًا، وأعلم أن الشمس لا تبالِ بطالب جامعي وبالكادحين عمومًا.
إطلالة من جحيم:
أصل إلى غرفتي المغلقة منذ شهر، وقد صارت كشواية على أهبة الاستعداد لصفوف من الدجاج المخزوق بقضيب سيدورها لتتقلب على لهب كما تقلب إبراهيم خفاجي على جمر الغضى في قصيدته الغنائية، أهرع إلى المكيف الهرم الذي مازال قسم الصيانة بالسكن الجامعي -آنذاك- يراه مكيفًا في أول مشوراه التبريدي، تدور مروحته فيدخل قليل من الهواء المعتدل ثم ينحبس صوته ويصدر أزيزًا ويندفع منه هواء ساخن كأن المكيف يطل عل الغرفة من جهنم، وحينها لا حيلة إلا ورقة إصلاح عبر موقع الجامعة الذي أوقف خدماتي لتراكم الإيجار، من الذي أقنع إدارة السكن أن تفكر بعقلية مالك عقار يهدف إلى مضاعفة أمواله، فمن تأخر بالدفع يُحرم من الصيانة بلا جدال.
لحسن حظي فقد وصلت قبل نهاية الدوام، توجهت إلى مكتب الإشراف وأنا أتوسم في الموظف خيرًا وأشرح له خطورة حرارة الغرفة مع جملة من الأعذار التي أرجو خلوها من الكذب، فيتجاوب معي ويمدني بورقة لإدارة الصيانة أخذها بفرحة من استلم صك الغفران بعد عقود من العتو والإجرام، لأسلمها إلى فني في الصيانة في الجانب الآخر من السكن والشمس لم تغيّر رأيها ولم تمر حتى سحابة صيف على الأقل. يتسلم الورقة مني وأنتظره أعود في سيارته التي لا مكيف فيها إلى البناية التي تقع غرفتي في أعلى طوابقها، يخرجون المكيف الذي يرتفع عن الأرض (30 سم) أو أقل مع وعود -صادقة- بإعادته في أقرب وقت.
الوحدة كرفيق:
جرت العادة ألا أجد أحدًا من الرفاق في السكن في يوم الأول أو الظهيرة الأولى فعدد يسير منهم من يدرس الصيف، وسيكون حينها في الجامعة التي يقع السكن خارجها، بعد برهة من الوقت يعود المكيف وقد شبع من الفريون وغسل حتى تلمع أسنانه ويعودونه إلى مكانه ويغادرون وهو يهدر ويبدأ الصراع بين الحرارة المختزنة وبين البرودة التي تتهادى على مهل إلي، وعادة تبقى الحرارة في الغرفة إلى اليوم التالي أحاول النوم وبعد لأيّ أنال متقطعًا فأستيقظ مصابًا بتعب أشد مما كان، وتبدأ رحلة أخرى هي رحلة البحث عن طعام أسد به جوعي.