!فرصتك الأخيرة أيها الشتاء
وأنا أسنُّ أفكاري في عين هذi الصفحة التي كانت غارقة في البياض الحليبي - حسب تعبير ساراماغو في رائعته"رواية العمى"-، توقف في رأسي ما يشاكلها مشهدًا ولونًا، ويخالفها حركةً، بياضٌ لا نهائي، عاصفة ثلجية تصفع المكان كمخلب ذئب جائع، يذوب كل شيء في الثلج سوى الطفل المتشبث بعمود من خشب، طفل يرتدي معطفًا شتويًا أسود.
تسربت هذه اللقطة من طبقات بعيدة في ذكرياتي، طفت من حيث تركتها أفلام الكرتون في رأسي عندما كنت صغيرًا. كم من المعاني التي رسمتها تتداعى إلينا بعد عقود وقد طمس البياض سواد رؤوسنا، خصوصًا تلك المعاني التي لا نرى صورها في واقعنا أو حيث نعيش كالشتاء القارص والكلب الأليف الذي يقاسمنا الدار أو الصنوبرة الطويلة التي تمسك الغيم أن يقع، زميلتك الحسناء في الصف الدراسي. إن أفلام الكرتون مسؤولة عن الكثير مهما تطاول بنا الأمد وقست حياتنا، معادلة ثابتة الأطراف: أأثنيت ركبتك أمامها؟ إذن ستقبى فيك ما حييت، ولعلها تكون جذوة الطفولة التي تحتاجها كي تغسل جبينك من سخم الصراع لأجل القوت.
كانت الأفكار التي أعدها: الكتابة عن الشتاء، أتمنى لو أحلت إلى آخر كتاب قرأته وقد تناوله بطريقة فائقة الجمال، إنه الكتاب الأبيض غير أنه لا يسعفني للكتابة هنا لتباين الشتاء في بلاد الكاتبة وحيث تسافر وحاله لدينا، وعليه فمن الأصدق أن أستعين -بعد الله- بما في رأسي من أخباره القديمة.
أول مرة سمعت فيها الشتاء -حسبما أتذكر- من كتاب العلوم في الصف الأول الابتدائي أو الثاني، الشتاء هو الفصل الثالث بعد الخريف حيث يبرد الجو وتهطل الثلوج، هكذا ترسخ الشتاء عندي، برد شديد، وثلج، ولأن مدينتي لا تعرفه؛ ظل الشتاء معنى بلا صورة، بلا حضور خارجي في طفولتي، وحل محله "موسم امبرد" حينما يعتدل الجو وتهب نسائم البحر محملة بالندى الذي ينعم أطراف الشتاء فلا تجرح دفء الجباه. في لحظة ما التحم الشتاء "بموسم امبرد" وعلمت حينها أن الشتاء يختلف باختلاف مواقع البلدان وجغرافيتها، وشتاؤنا ليس كشتاء غيرنا، وأمي المسؤولة عن هذا الإنجاز الكبير، فالمعاني المجردة تصيبني بالدوار، تحيرني وتستدعي جهدًا كبيرًا، بعد ذلك الالتحام استقر المعنى بهدوء كالتي استوت على الجودي حتى قرأت لإيليا أبو ماضي فتكونت قشرة جديدة على السطح، قشرة غير مرئية، بلا وزن تقريبًا، لكنها موجودة، ثم رواية ماجدولين فزادت الطبقة سُمكًا، ثم ازدادت الطبقات كثافة عندما بدأت أكتب وأستشعر ما يقوله أهل الأدب عن الشتاء والقريحة، أتذكر مكالمة مع الصديق عبد الله عبيد عن شتاء صنعاء والكتابة حتى تخيلت: شتاءً باردًا ينفذ عبر زجاج النافذة، وبراد شاي ينبعث منه البخار، وجرح القريحة التي يحدثه الشتاء حسب وصفه، كأن شتائي انقلب ساذجًا كما كان.
ذات مرة كنت في المكتبة المركزية في مبناها القديم بجامعة الملك عبد العزيز ووجدت مقالات لطه حسين جمعها في كتاب وسمه بعنوان إحداها: "من لغو الصيف إلى جد الشتاء"، وخلاصته: الشتاء للطف أجوائه وطول لياليه شهر العمل والكدح المعرفي والجد والصيف لغو لطول نهاره ولهيب جوه، ولا أدري ما سيقول العميد لو جرب الرطوبة التي جربُتها حيث تغتسل رغمًا عنك وتلتصق ثيابك بظهرك وأنت تسير فإن أبعدتها عنه تضايقت بسبب إلفك الالتصاق وإن أبقيته هرشت ظهرك وإن مشيت أكثر لتصل إلى وجهة بها مكيف التصق القميص بظهرك ورقبتك ووجدت منه ضيقًا واختناقًا وتبقى في صراعك حتى يأذن الله لك بمكيف، أو ستضطر لتأجيل أمورك ولا تنجز شيئًا.
وأحمد للعميد أن أضاف بعدًا جديدًا للشتاء عندي، بعد الجد والعمل، ظل هكذا حتى شتائي الأول بتطبيق "باث" حيث أخذت النكات عن الشتاء تتراءى لي مع كتابات هازلة فانخدش طهر الشتاء في رأسي، وفقد ملائكيته للأبد، وللموضوعية فقد حقق الخدش توزانًا مطلوبًا، كظفر الحمامة المسالمة المؤذي، كالبرق والرعد اللذين يسبقان المطر يحدثان توازنًا بين الطمع في الثاني والخوف من بأس الأوليين، فاستحال الشتاء كما أقرأه هناك من سعي خلف الوحي أو ربة الإلهام حسب تعبير إليزابيث الليندي إلى السعي خلف التدفئة بالاحتكاك كما يعبر صديق لطيف وإن لم فعليك بالحليب بالزنجيبل الذي حملته محمل الجد، وصادف ذلك الشتاء أن كنت برفقة واحد من أصدقائي، وزميلي بالكلية، فبعد عشاء دسم ذهبنا إلى القهوة في زيارتي الأولى. كانت تتكون من قسمين، الأول السُفلي وهو ساحة كامتداد للشارع، أرضها أسفلتية، والأخر على مصطبة طويلة ترتفع مترًا أو نصفه، على يسارها غرف وتفصل بين القسمين أشجار عُلِّقت عليها لمبات، وتتخلل النسائم اللطيفة أغصان الأشجار، وتحمل على أهدابها نغم أم كلثوم الذي تنشره شاشة في الجالسين، تطرب له أحجار الدومينوز فتضرب رأسها بالطاولات، وتشهق الأراجيل مع كل حرف كلثومي، ويغني النادل المصري النحيل للجمر الأحمر الذي بيده، وأحجار النرد سادرة في عبثها بحظ أصاحبها، كل نفس من الأرجيلة بفكرة، وكل حجر دومينو بحسابات في الفوز والخسارة، والشتاء يجمع الكل تحت جبته، قعدنا على كراسٍ حمراء، طلب صديقي أرجيلة تفاحتين، وطلبت حليبًا بالزنجبيل، رأيت الرجل في المطبخ يصب حليب “بوني السائل” في الكوب وعليه ماء حار، ثم ذوب سكرًا مع مسحوق الزنجبيل المجفف، وكانت المفاجأة إذ كنت أظن الحليب السائل مصنوع فقط للشاي، ما أقسى خيانة الحليب! على أي حال لم يكن مذاقه بالزنجبيل طيبًا، فطلبت شايًا وأكرمت المشروبين، خاب ظني في الأول والله المستعان. أشار علي صديقي أن أعب من أرجيلته ولم أملك شجاعة التجريب حينها، وقد أقدمت على العبِّ من أخرى بعد ذلك بأشهر وكانت خيبة أنكى، وجدتها بخارًا برائحة التفاح أو سحابًا منكّهًا بتعبير رائق لا تستحقه فقد كنت أحسبها ستملأ فمي بمذاق الفتاح وحلاوته.
إذن لا المعسل ولا الحليب بالزنجبيل صالحين للشتاء، سأجرب هذا الشتاء أن أكشت في صحراء ليلًا حيث النجوم والقمر في السماء والرمل الممتد ذهبًا على اتساع العين، ولكن لابد من خبير بالكشتات يعد الأدوات واللوازم، ويختار المكان المناسب للمبيت، ويحسن الحديث عن الجن وكل ما يخيف، ويجيد الطبخ، ولا يشخر، ويفي بوعوده فكل من أعرفه متصفٌ بما سبق عدا الوفاء بالوعود ففي الصيف يعد وفي الشتاء تصاب ذاكرته بتلف مؤقت، إذا كنت تعرف أحدًا ينطبق عليه ما سبق بما سبق فصلني به وصلك الله بلطفه أو سأرتد إلى الشتاء القديم، أسيفعل ما عجزت عنه مقاهي محمود درويش؟