(1-2) الأربعاءات الكئيبة



إنه يوم الأربعاء، آخر أيام الأسبوع الدراسي سابقًا، لم يكن هذا الأربعاء عاديًا، ولم يكن شاقًا طويلًا فحسب، كان يومًا دراسيًا عسيرًا ممتدًا إلى غاية التعب والانهاك جسديًا ونفسيًا، والسبب حتى هذه اللحظة محاضر جاد غالٍ في حرصه حتى تكليفه طلابه شططًا بنيته طيبة، ربما هو على درجة من الحمق أو غفلة أو هذا ما بدى.

يومٌ لزج:

إنه يوم ثقيل وليته يعلم، واحد من الأربعاءات ذلك الفصل الدبق الكثيف الذي يشبه التصاق قميص بولستر بجنبيك في شدة الرطوبة، كان ذلك الأربعاء حتى صعودي الحافلة -التي تقل الطلاب إلى السكن الجامعي- شبيه بإخوته البلداء، حيث نختتم أسبوعنا مع هذا المحاضر الذي نحضر إلى قاعته ويبدأ الشرح في غرفة مظلمة مستعينًا بالبروجكتر الذي يعرض ملف وورد لمادة المقرر، فتجتمع الظلمة مع البرودة وشرحه المتشعب الذي ينطلق من رأسه إلى آفاق لا يدركها إلا اللطيف الخبير ثم العباقرة الخالصين، وكالعادة يؤخرنا حتى يدركنا وقت المحاضرة التالية ونحن منتظرو تحضيره في خطة رديئة مكشوفة، ولا ينتهِ البؤس هنا، حتى يأمرنا بالعودة إليه في محاضرة Tutorial مدتها ساعتان بالتمام، تبدأ في الثانية والنصف إلى الرابعة والنصف، وكان أكثر زملائي يفرغون من محاضراتهم ولا يحسبهم عن قص شريط الويكيند إلا انتظاره، فكنّا نتفرق في أرجاء الجامعة.

في المكتبة:

كنت ممن يلبث في المكتبة لقربها من المبنى الذي به القاعة، ولحبي لكتب الأدب شعرًا ورواية حيث توجد في مكتبة الجامعة عدد كبير من العناوين والنسخ القديمة نسبيًا فقد توقف تزويد الكتب لأسباب لا أعرفها، وفي بعض الأربعاءات كنت أجلس مع ثلاثة زملاء أو أربعة مع صديق سوري حلو الكلام يحدثنا عن قصصه في سوريا التي درس فيها عامًا جامعيًا حتى حظي بالقبول في الملك عبد العزيز، مرة أبصرت هذا الزميل وقد تأخرت الحافلة التي تقلنا إلى الجامعة لازدحام الطريق فكان يحث الخطى وفي عينيه كالدمع، واختفى هذا الحرص مع الفصول التي القادمة، كنا نجلس على مقاعد جلدية في مبنى مكتبة الجامعة القديم المطل على شارع عبد الله السليمان الذي يقال إنه أوقف للجامعة أراضٍ واسعة يملكها.

حتى لا تكون فتنة فكان السأم:

 في تلك الفترة ظفرت بكتيّب لغازي القصيبي "حتى لا تكون فتنة" وقرأته مرة وأنا في انتظار المحاضرة الطويلة في أحد الأسابيع، وكنت معجبًا بأسلوب غازي وتدفقه من أول سطر حتى آخر صفحة، وقادني هذا الكتيب إلى آخر "الثورة في السنة النبوية"، كان ظريفًا، ورأيي أن قيمة الاخير تكمن في السياق والمرحلة التي كتب فيها، وهو من إصدارات دار الساقي، ولون غلافه أخضر مكتوب عنوانه بخط الثلث أو الفارسي بلون ذهبي فاخر، على خلاف "حتى لا تكون فتنة" الذي كان غلافه من لونين هما الأزرق والأبيض، تصميم ممل كذلك الفصل الذي قرأته فيه، والأملُّ أني لم أجد أحدًا من زملائي يشاطرني الاهتمام، فحكيت في طريقنا للمحاضرة الطويلة قصته لزميل وقد أحسن إلي بتسليكه، وقد كنت أظن قراءة ذلك الكتب عملًا بطوليًا، ولعل السبب هو منع إعادة طباعته بناءً على طلب مؤلفه فقد استوفى غرضه. بعد أسابيع من قراءة الكتاب اقتربنا من نهاية الفصل الدراسي الذي كان مستواي الثالث بالجامعة والأول لي في التخصص كمهندس، وكانت التحديات فيه شاقة، فلم تكن السنة التحضيرية ذات بالٍ لا من حيث صعوبة المواد ولا من حيث أهمية الحضور، ولغياب سلطة الدكتور الذي ليس بيده نصف درجة، وعليه فلا واجبات ولا مشاركة ولا مشاريع، أو Projects تلك الكلمة التي تفتح علينا أبواب الهم. ففي تلك المادة البئيسة كان علينا التبكير إلى الحضور، وأداء اختبارات ومشاركة، وإعداد مشروع ببيانات حقيقة وتقديم عرض ومناقشته، وتسليم واجبات محلولة باليد وبإكسل كل أسبوع، ليس هذا فقط فالاختبارات لا يعدها هو كمنسق للمادة ثم يعرضها زملائه المحاضرين، بل يسند لكل واحد منهم سؤالًا فيستدعي كل فرد خبرته وتجربته وفنه في وضعه سؤال وكأنه هو الاختبار، فتغشانا أسباب الكرب والعنت من كل باب.

اجتماع الفريق:

في المحاضرة الأخيرة أو التي قبلها توزعنا إلى فرق أو Teams ولأنني لم أخض هذه التجربة من قبل فلم أعرف كيف اختار أعضاء فريقي أو كيف أقنع فريقًا بقبولي في ظل تكتلات واضحة من زملاء كانوا يعملون على مشاريع بمواد أخرى، وأنا واحد ممن تجاوز إلى هذه المادة فصلًا دراسيًا هربًا من أخرى فوقعنا في الفخ مرتين في هذه وفي الأولى، الموت مع الجماعة رحمة، كنّا جماعتين -المتجاوزون وغيرهم- فمن منَّا نال الرحمة؟ انقسم الطلاب الذين مثلي إلى فريقين. شرح لنا المحاضر المطلوب، وهو تطبيق كامل مفاهيم ودروس المقرر أو أكثرها على بيانات حقيقية نجمعها ونكتب اسم ورقم المصدر الذي زودنا بالمعلومة،  وللمحاضر أسبابه الوجيهة، وهذا المطلوب أشق المطاليب، فالشركات والمحلات تضن بمعلوماتها وبياناتها، لقليل من الأسباب المنطقية وللكثير من الغباء والجهل الذي لو وزع على أهل الأرض لم يهتدوا إلى اختراع إبرة، وفي نفس المحاضرة الشاقة التي في أسبوع الأخيرة كان على كل فريق الاجتماع لمناقشة المهام وتوزيعها، وكان اجتماعنا في مكتبة الجامعة، أنا واثنين جعلنا صديقنا الغامدي الرئيس، ولا أدرِ ربما لأنه ضحوك ومُطَمْئِن لنا ويرى الحياة تساهيل. لا أذكر لماذا لم يحضر ثالثنا، انتظرناه ولم يأتِ، وفي أثناء الانتظار اقترحت عليهما تناول طعام الغداء في مكان قريب، ولم نتفق على مطعم، كان الغامدي يريد البيك، وأنا أريد أرزًا أو طعامًا نتشارك فيه، طال النقاش حتى حمل الغامدي حقيبته بعد توزيع المهام وعاد إلى بيته، بقيت أنا وزميلي الأخير فذهبنا إلى دومينوز وأكل كل منا وجبته لوحده على الطريقة الأشعبية/ الأمريكية، كان المطعم مقابلًا للمكتبة وبين سور الجامعة وبينه جسر مشاة خشبي، عبرته ذهابًا وعودة، ثم عدت لحمل كتبي وأقلامي من المكتبة وانتظرت الحافلة التي أقلتني إلى السكن، وأنا مهموم بأمر البيانات الحقيقية.

عصير القصب هو الحل:

كانت المسافة بين الجامعة والسكن تقدر بربع ساعة أو أقل، في الطريق كنت مشغولًا بالتفكير في البيانات الحقيقية التي علي جمعها، ولا أدرِ أي مشروع أختار، ترجلت من الحافلة في محطة بها عدد من المحلات من بينها محل لبيع عصير القصب، دخلت إلى المحل وطلب عصير قصبٍ فدوّى في المحل صوت آلة عصره التي تشبه دولابًا حديدًا مصمتًا أعور به فتحة وحيدة في الأمام، يدفع الرجل القصبة فيها دفعًا لتخرج مهشمة من الجهة الفتحة الأخرى، وتحت الفتحة الأمامية أداة كالقمع ينسكب العصير منه في كوب معدني كبير يفتقد إلى قليل من الكثير من النظافة، شربته وشرحت للبائع الطيب المشروع وطلبت منه تكلفة الآلة وعدد الأكواب التي يبيعها يوميًا وسعر الأكواب البلاستيكية والمصاصات وبقية التكلفة المباشرة، أما غير المباشرة فعلمها عندي ربي، عدت إلى السكن وقد انجلى بعض الغم ولم أعرف أن بيتنا الذي يقع على مسافة 750 كيلو منه هوت فاقرة عليه ذلك الصباح!