(2) من عرائش الذاكرة

أسئلة التاكسي



في 2008م كانت المكتبة الوحيدة التي تستحق هذا الاسم بمنطقة جازان هي مكتبة الهندسة الذي حولت طابقها الأعلى إلى مكان خاص بالكتب، ووُزعت الرفوف حسب المجالات، كانت الكتب كثيرًا والطابق مستعٌ إلى حدٍ ما، كل هذا حسب معاييري في تلك السنوات فلو دخلت إليها اليوم قد أكتشف أنها محدود الحجم والعناوين، كنت أستقطع من مصروفي الضئيل لشراء كتابٍ وأتقرب عودة أخي من أبها -حيث يدرس- ليوصلني إليها، والذي كان يزيد الأمر ضيقًا هو قلة الكتب المصور "الـpdf " آنذاك. أتذكر مكتبة المصطفى التي أخبرني عنها أحد الأصدقاء وقد أهداني في ذلك العام أو كتاب pdf  وكان "في صالون العقاد كانت لنا أيام" لأنيس منصور، نسخه على فلاش ميموري اشتريته من جدة وكان حجمه جيجا واحدة فقط وكنت أراه باتساع الدنيا حتى فقدته في ليلة لا تنسَ ويشهد عليها ألمي.

كتاب حواديت المشاهير:

من الاغلفة التي لم تبرح ذاكرتي -في تلك المكتبة- غلاف كتاب عن سائقي سيارات الأجرة بمصر، "حواديت المشاوير" أتذكر بياضه وعليه لوحة التاكسي الصفراء بحروفها الإنجليزية السوداء، وفي الخلف أسطر كتبها عبد الوهاب المسيري الذي سمعت عنه وعلمه وسعة اطلاعه وإن كنت لا أدرِ -حينها- في أي فن برع، أقلب الكتاب بين يدي في زيارات مختلفة، وأحجم عن شرائه بعد انتصار الإحجام على الرغبة بسبب قلة ذات اليد، فأعيد الكتاب في كل مرة بحزن مكنون بعد تصفحه، يحكي الكتاب قصصًا وقعت لمؤلفها مع سائقي التاكسي ويروي مواقف أخبروه بها.

مع عالم الاجتماع المصري سيد عويس:

من الكتب التي أزعم أنها قريبة منه ما تحدث عنه الكاتب المصري بلال فضل في برنامجه عصير الكتب وهو "رسائل إلى الإمام الشافعي: ظاهرة إرسال الرسائل إلى ضريح الإمام الشافعي دراسة سوسيولوجية" لعالم الاجتماع المصري الكبير سيد عويس الذي اختار ميادين جديد لدراسة المجتمع المصري سيوسولوجيًا حيث عمد إلى الضريح المنسوب للإمام الشافعي وبرتيب مع الجهات المسؤولة اطلع على الرسائل التي يلقيها زوّار الضريح لتكون عينة دراسته؛ وخرج بنتائج مبهرة. يقع الكتاب في زهاء الأربع مئة صفحة، ومتوفر على الشبكة العنكبوتية مصورًا من نسخة طبعتها دار الشايع 1987 وكان أول ظهور له عام 1960م.

بعد فترة قادتني المصادفة المحضة إلى كتاب آخر لنفس العالم "هتاف الصامتين" وقد درس المجتمع المصري هذه المرة بطريقة أغرب، عبر الكتابات التي يخطها السائقون على سياراتهم، لم أطلع على الكتاب، فلا أملك نسخة منه ولم يُبدّف (=أي يور ويحول إلى pdf) حتى الآن. من حسن الحظ أن الشيخ أنس السلطان -حطفه الله- أقام دورة لمدارسة الكتاب وهي مرفوعة على حساب مدرسة شيخ العمود بساوندكلاود، ولا أخفِ فرحتي حين سماعي عن الكتاب فقد قلت لأحد إخوتي -قبل معرفته-  أنا على قناعة تامة لو أردت التعرف على شخصية أحد فانظر ماذا يكتب على سيارته، والكتابة ليست ظاهرة هنا إذ أن المرور يمنعها، وهي ظاهرة في اليمن التي كنت أزورها كثيرًا، فأجد عبارات الحب والشوق والفراق والدعوة على الحبيب الهاجر أو حكمة أو تحذيرًا أو تهديدًا بإحدى اللهجات اليمينة أو رسالة ضمنية إلى شخص ما.

في رفقة سائقي التاكسي:

وعودًا إلى قناعاتي لدي قناعتان، الأولى: إذا أدرت معرفة مدينةً مجتمعًا وطرقًا وطباعًا فاسأل سائقي التاكسي فهم يقضون أوقات طويلة مع جميع طبقات المجتمع، خصوصًا قبل تطبيقات التوصيل ككريم وغيره، وزادهم أهمية عدم وسائل النقل العامة أو قلتها، فيستقل تلك التاكسي الطلاب والموظفون والزوّار، الجميع بلا استثناء، وهذا يجعل السائق خبيرًا في شؤون ذلك المجتمع وبأدق تفاصيله، وقناعتي الثانية: أنك كل واحد لديه قصته التي تستحق روايتها، وحكمته التي تستحق الإصغاء والتمثل. قبل عامين كنت مضطرًا إلى استقلال سيارات الأجرة وكان تطبيق كريم الخيار الأنسب، فكنت أتحدث كل يومٍ مرة أو مرتين مع السائق دون معرفة، أسأله عن أهله ودياره ومزاجه، وإذا كان عربيًا أو أعجميًا يبين سألته عن تفاصيل أبعد، كأغرب المواقف التي مر بها طيلة عمله، أو شعوره اتجاه مهنته هذه، وقد أعد له أسئلة عن قصة حياته هنا وفي بلده، ومن الأسئلة التي أحب: لو عاد بك الزمان سنوات ما الذي ستفعله؟ وما الذي لن تفعله؟ هذان السؤالان رافقاني إلى بودكاست لوحة، فكنت أعيدهما على الضيف في كل حلقة حتى أسميتهما لعبة العشر سنوات، وأعترف أن سبب أسئلتي للسائقين هي إيجاد مادة للكتابة عنها، وكالعادة كان هذا المشروع الكتابي كغيره، فكرة ثم لا شيء، حتى نسيت كثيرًا من القصص والأحاديث ولم يبقَ في رأسي إلا حديث رجل مصري في نهاية الأربعينات.

مع المصري والسعودي:

 أوصلني الرجل بسيارته الخاصة وتشعب بنا الحديث وكان كريمًا في البوح صادقًا فيه، ومما سألته: لو سألك ابنك الأكبر هذا السؤال، ما أكثر ما ندمت عليه؟ تنهد وأجاب، كان أبي يقول لي: كن صريحًا وقل للأعور أنت أعور في وجهه، وبسبب هذا خسرت ترقياتٍ في وظائفي وخسرت عملي الأخير، ولم يعد لي من دخل سوى هذه المشاوير، يا بني كن مداريًا لا تصرح بالقول إلا في موضعه وإلا ستخسر الكثير، وأعترف لا أستطيع التخلص من هذا الطبع. ومما أذكره أني سألت سائقًا سعوديًا في كريم عن الأمر الذي لو عاد به الزمن عشر سنوات لن يقترفه، قال: التبذير وصرف المال دون تفكّر، كنت قبل سنوات غنيًا والآن في حال مادي عسير، لو ادخرت لكنت من ذوي الوفرة والغنى.

من سائقي الأجرة إلى البودكاست:

ليست هذه الأسئلة خاصة بالسائقين فقط، فإني أوجههما إلى أستاذتي ومن يكبرني سنًا، فلهما فائدتان: منحك خلاصة تجربة طويلة، والثانية تقربك منه فالسؤال يشعره بأنك تجله وتحترم تجربته في الحياة لذا سيعطيك من النصائح ما لا يُشترَ بالذهب الأحمر ولا بغيره، مرة سألت صديقًا وكنا عائدين بعد دورة قدمها وكنت أحد حضورها، ما الذي ستقلعه لو عاد بك الزمان عشر سنين؟ أجاب: سأتعلم لغة أخرى، الإنجليزية مثلًا ففيها، من الكنوز وبها من المعارف ما ليس بغيرها، وأعجب إجابة على هذا السؤال كانت من الصديق محمد عبد الجبار في الحلقة الـثامنة عشر من بودكاست لوحة، قال: لن أغير شيئًا فالأشياء التي فعلتها هي من كونت محمد عبد الجبار اليوم.

والآن أوجه لك نفس السؤال: لو عاد بك الزمن إلى الوراء ما الذي ستفعله؟ وما الذي ستتجنبه؟