يوم مع ضيف متزوج!



تنبيه: هذا النص منسوج من الخيال وأي تشابه بينه وبين الوقع سببه حظ عاثر.

..

 ساعات قليلة مضت إثر رحيل ضيفي شريكي في الشقة، إنه فهد أو أبو عابد كما أحب مناداته، قال لي:

-  سيحل علينا غدًا ابن عمي ضيفًا:

-  مروان كامل، تعرفه إنه من زملائك بالثانوية أو المتوسطة.

جالت في رأسي الذكريات ولم أجد أحدًا بذا الاسم الثنائي حتى التمع في ذهني اسم مروان خالد.

-  اسمه ليس غريبًا، ولكنني لا أعرفه.

مضغت ذاكرتي وقلت على سبيل التخمين:

-  هل تقصد مروان كامل؟

-  نعم هذا لقبه، مشهور فينا بمروان خالد.

بعد عقد من السنين وأطول:

ليس من الضروري وصف مشاعري حينها، ولك التخمين، سيحل عليك ضيف آخر مرة رأيته فيها قبل عشرة أعوام وأشهر على الأقل، أفكار تغيرت، ومزاجات تبدلت، واهتمامات تقبلت، عمرًا مضى، دهر انقضى، كل هذا في يد وفي الأخرى خشيتي من سؤال: أين أنت؟ أين كنت؟ ماذا صنعت؟ هذه الأسئلة ونظائرها تلوح به ثم تصفعني كالتميس في يد الخباز، عندما تقارن بين حياتك وأحلامك التي من المفترض أن تكون واقعك اليوم، ما الذي حققته، وما الذي عجزت عنه، إنها أسئلة تضع لحمي على مسننات المساءلة والمحاسبة، وأنا رجل مصاب بعقدة الكمال، فنفسي موجعة بالجلد والصلب، في هذه السنوات لم تكن الحياة كما توقعتها، ثمة أخطاء ارتكبتها غرًا فكانت نتيجتها كارثية بكل المقاييس، ثم إنني لم أشخص الواقع حينها ولم أفهمه، كان الحلم أوسع مما يحتمل واقعي، بالون زاهي، والدنيا مسامير لا تنتهي، الجيد تعلمي فن التملص من الإجابة بحيلة مكارة  وتوجيه عاصفة من الأسئلة تتخللها طرح ذكريات مشتركة، حتى يلتهي الضيف بالإجابة، فإن أفاق لمعرفة حالي شغلته بالماضي المشترك، وأخطر شيءٍ لو كان محدثك فضوليًا جدًا أو محبًا مخلصًا، لأنه سيجد مساحة سيسدد من خلالها سؤاله على هيئة لكمة تسلبك التوازن، حينها لا بد من مهارة أخرى وهي الاستعانة براجمات الأسئلة، اطلق عليه أسئلة لا يفصل بينها سوى أنفاسك ،اشغله بما تريده عما يريده هو، وغالبًا لن ينجو من نيرانك.

حانت ليلة وصوله المزمع، فسألت أبو عابد فقال: سيصل ليلًا، وعند الساعة الحادية عشر أو بعدها يخرج من غرفته يتمايل لا من الفرحة، بل من النوم ليفتح الباب ويدخل مروان إلى الغرفة التي سيبيت فيها، وبعد مصافحته والاحتفاء به، والحديث معه سريعًا ثم الخروج من الغرفة إلى الأخرى أدركت أني استبطنت نموذجي الرائع، فقد طرحت عليه أسئلة عن الإرهاق البادي وقلت له: كأنك أتيت إلى جدة ماشيًا، أطفأت له اللمبة وشغلت المكيف، فاشتكى من البرد وهممت بإطفائه فأبى إلا بعد مضي ثلاثة دقائق، فاستأذنه.

خيبة أمل وعمل:

في اليوم التالي بكرت إلى عملي، وعدت عصرًا فلم أجد أحدًا، وبقيت في الشقة بين الجوال وبين الاستعداد لحلقة أستضيف فيها الأستاذ عبد الرحمن مرشود، وانطلقت بعد العشاء إليه ولم أعد إلا قبل الفجر بثلاث ساعات أو أقل، بعد ليلة كانت لخيبة الأمل والعمل والله المستعان، إنها 20/2/2020م ولا أكتم قولًا ولا أبالغ لو قلت إني أتطير أو يقع في نفسي شيء من التواريخ المميزة التي يكتب عنها رفاق السوشيال ميديا وعما يرغبون في تحققه فيها، ومحال أن يقع مما يتمنونه إلا في يوم خالد من أيام الله أو من ليالي الحظ السعيد، ولأعرّفهم حظهم، إنه أتعيس من حظ رجل قبيح يعيش في عالم كله مرايا!

ليتني أستطيع أقول هذه العبارة: "كانت الساعة تشير إلى الثانية النصف" فلي يد حرة، معصم لا يقبل قيدًا ولو كانت ساعة وأصابع تضيق بالخواتم، كانت إضاءة الجوال كالمكعب ضوئي يعلو شاشته، في الركن الشمالي الغربي من المكعب كان الساعة: 1:30 صباحًا، فتحت الباب، وأدخلت شنطة السفر التي أجر فيها أدوات التسجيل في كراتينها، مايكرفونين، وجهاز تسجيل Zoom H6 وسماعتين وحاملين وفلترين، هذه الشنطة التي كنت أسحبها خلفي داخلًا الفندق -حيث اللقاء- وأعبر بابًا دوارًا يطوف حولي كمشركي العرب وأنا هبل في ليلة تعيسة، وكانت الإضاءة تجعل المدخل كأنه مزدلف إلى عام نوارني خالص، وعلى العكس كان مدخل عمارتنا المظلم إلا من لمبة واحدة أبى مالك العمارة بخلًا إضافة أخرى، فقررت مع صديقي أبو عابد إسراج واحدة على باب شقتنا تأخذ على عاتقها شيئًا من عبء ليل البناية المقيم، أدرت المفتاح الذي أملك منه ثلاثة نسخ، وفتحت الباب ووضعت شنطتي في صالتنا الصغيرة، وتسكعت في العالم الافتراضي حتى غدر بي النوم غدرًا، حتى قبيل الجمعة.

أفقت على منبهٍ يرن في منتصف الساعة الحادية عشر ظهرًا، وبقلب ميت، أطفأته وأطفأت المنبه الذي يليه، وعدت بسلاسة إلى نوم شفاف، نائم ولكنني يقظ بطريقة ما، سمعت أبو عابد يقول: مصطفى الساعة الآن الثانية عشر والنصف لو أردت صلاة الجمعة، ثم أغلق باب الغرفة خلفه، "لو أردت" أأنا من يهودي مطليس من أتباع المسيح وأحضر صلاة الجمعة كضيف شرف؟ صحيح أنني نمت عن جمعة خلت بسبب إرهاق الشديد لكنني لم أصل إلى هذا المستوى المتقدم من الفجور حتى أهجر الجمع والجماعة في خلوة نومية برعاية حصرية من مكتب إبليس لخدمات صرف المؤمنين عن العبادة.

حلبة ومرق:

انتفضت من على السرير كورقة في دفتر صبي، ولم أفق إلا وأنا في الحمام، لبست ثوبي وإلى المسجد، تأخرت قليلًا فسبقني أبو عابد والضيف إليه ومنه؛ التقيت بهما على مدخل الشقة يدعواني إلى الغداء، أحضرت محفظتي وتبعتهما خرجت إلى الصرافة فإذا بمنبه سيارة يدوي في تلك الظهيرة التفت لأرها يديهما تشيران مع النداء، ركبت السيارة التي كأنها قنفذ أزرق -أحب السيارات الصغيرة جدًا- وبعد مفاوضات واقتراحات اخترنا مطعمًا يمنيًا، أراد مروان أن يثبت حفظه لشوارع جدة التي غادرها مذ أربع سنين، وأضاف: أسأل باستمرار عن جديد الطرق لأبقى على معرفة، وأشهد أنه يحفظ الشوارع كما يحفظ خطوط يده، وصلنا إلى المطعم ووقفت في الصف أمام الكاشير، وهمس في أذني أبو عابد: الرجل لا يأكل لحمًا اطلب له إيدامًا أو ملوخية، وقد فعلت، لحقت بهما ووقف كل واحد في ركن لنرى أي طاولة جلسة تفرغ، وكنت قريبًا من الجلسات، مسحت بعيني أطباق الزبائن فكانت كلها ممتلئة وسفرهم نظيفة، وأيقنت أن انتظارنا سيتطاول حتى سمعتهما يناديان، فقد فرغت طاولة، جلسنا وجاء غداؤنا الذي كان صنفين من الأرز الأبيض والأحمر، وملوخية مطهوة بالطريقة اليمنية "مكشنة" في صحن، سلطة فيها الجزر والخيار ضيفا شرف، والحضور كله للملفوف كأنه نصف خضروات السوق، هذه السلطة اليمينة، وبيني وبين مروان طبق حداثي يتظاهر أنه تراثي يمني، إنها فحسة دجاج بلا حلبة، وهذه من الغرائب، فالدجاج في اليمن يحتل المرتبة الدنيا في سلم اللحوم، ولا تحلم دجاجة أو ديك مذ كانا بيضة أن يرقيا إلى الطبق الأهم إلى الفحسة، أما الحلبة الغائبة هل لأن المطعم يراها أشرف من أن تسكب على الدجاج أم لأن الذائقة المحلية لا ترغب فيها كثيرًا، السبب الأخير أوجه، غابت الحلبة عن الفحسة وبقيت في صواني المرق التي شربت اثنتين منها، الضيافة بالمرق تقليد يمني أصيل، ففي بعض محافظات اليمن يقدم قبل الغداء بقليل للمدعوين مرق ليهيئوا بطونهم للطعام قبل الأنقاض عليه، وفي هذا المطعم بعد أن استدرت من أمام المحاسب وجدت رجل يسير على مهل وفي يده صينية معدنية، تقدمت قليلًا فرأيت غلايتين كبيرتين وغلى يسارهما سفر بها الصواني تلمع كالفضة، تناولت واحدة وسكبت فيها المرق، ولمحت في الزاوية حافظة معدنية تخرج منها ملعقة غرف، إنها الحلبة إذن، غرفتان ونصف ليمون أعصره عليها، وأمزج الحلبة والليمون والمرق بعود خشبي، شربت الصينية الأولى وأشرت إلى المرق فأتيا الرفيقان، شربت الصينية وفي بداية الغداء قمت لأملأ الثانية، كانت الحلبة كالدريم ويب والمرق كعصير الأفوكادو بالتفاح كما أخبرت لصديق سألني في سناب، شربت المزيج بعد تحريكه خالصًا سائغًا.

في طريقنا إلى المطعم قال أبو عابد أن عليه الحضور اليوم إلى عمله، لذا فكرت في مرافقة ضيفنا في تسكعاته هذا المساء، وصار هذا خياري الوحيد عندما اعتذر ضيف الأحد عن اللقاء، فلم يعد لدي ما أفعله، أُبنا إلى الشقة، ليروح أبو عابد إلى عمله، وأقول لمروان سأرافقك هذا المساء، فأوجز لي مشاويره، وكانت مملة ولكن لا خيار آخر.

إيكيا ويا قلب لا تحزن:

بعد صلاة العصر خرجنا فقلت له: ما رأيك لو توجهنا إلى محل يبيع نوعين مختلفين من الشاي، وكانت فقرة الشاي هي أحب ما فعلته في ذلك المساء، اشتريت شايًا كشميريًا وآخر بالزعفران لي واختار مروان الزعفران الذي لم يشرب منه حتى رشفة واحدة، لقد خسرت خمسة ريالات بلا فائدة. عاد إلى سيارته فتأخرت قليلًا لآخذ شايي المزعفر، ثم انطلقنا إلى إيكيا.

 ترجلنا من السيارة واجتزنا الباب الدوار، ومن هذه اللحظة يلوح خيط من الذكاء والاستغلال في إيكيا، فالباب ليس كغيره، بل فيه رفوف معروضة عليها سلع اختيرت بعناية فهي تجمع بين السعر الجيد، والحاجة اليومية إليها مثل ترامس الشاي التي تراها في المعرض كأول البضاعة وحتمًا ستشتري وإن كنت لا تحتاج إليها، ولحسن حظي أو سوئه آخر مرة زرت إيكيا كنت طفران كهذه المرة لكي لا أشتري ما لا حاجة إليه، وبقية خيوط الذكاء في التصميم العبقري، يدخل المتسوق ولا يخرج إلا بعد مروره بالمعرض كاملًا، يخرج بعد عناء السير والبحث ليجد في وجهه محلات للأطعمة والأشربة، محل لبيع المشروبات الباردة والساخنة، وثانٍ للشوكولاتة ومطعم، فإذا لم تتبع أثاثًا فوجبتك من إيكيا أو على الأقل لوح شوكولاتة كما فعلتُ، وفي الداخل فكرة بيع القطع من غرف النوم أو الأواني أو غيرها، ومن عبقرية هذه الفكرة شراؤك لقطعة بسعر تراه معقولًا، وتعود بها إلى بيتك ثم تكتشف حاجتك إلى القطعة الثانية والثالثة فتقع في الفخ فتشتري المجموعة كاملة، وإن اشتريتها أول مرة فقد ابتلعت الطعم.

الفخ والطعم:

في مادة الإدارة الصناعية طلب منا الدكتور كتابة الشركات التي نرغب بالعمل فيها، فمن باب حب التميز كتبت إيكيا التي لم أزرها آنذاك، وكل زميل في فريقي كتب الجهة التي يحب وكنت الوحيد من بين أكثر من ستين طالبًا اختارها، صوّت الفريق على اختار شركة الخطوط جوية أجنبية للعمل فيها؛ لوفرة المعلومات عنها ليس إلا، لأن هذه الشركة سوف نطبق عليها ما ندرسه وحتى مشروع التخرج أيضًا، والمعلومة الأخيرة لم نعرفها حينها، لكن الدكتور بمحض الهوى ألزمنا باختيار إيكيا لأن ابنته تعمل في مركزهم الرئيسي بالسويد، نعم هذا السبب الذي أتذكره بإنجليزيته الباكستانية، وكان هذا الإلزام مصيبة وقع فريقنا فيها. من متطلبات المشروع عقد مقارنة بينها وبين الشركات المنافسة عالميًا في مجالها، ولم نجد شركة عالمية منافسة، وجدنا عددًا من المنافسين المحليين في بريطانيا وأمريكا وكندا، وهنا ثمة شركة على سبيل المجاز أو التلفيق الطلابي للتخلص من هذه الورطة، إنها ذكرى أليمة غريبة كغرابة زي موظفيهم الذين كنت أنظر إليهم بغبطة، لو عملت معهم سأحتل مكانًا مرموقًا حسب مؤهلي الدراسي.

 يرتدي الباعة قمصانًا صفراء مقلمة وبناطيل كحلية، أما البائعات فعباءات كحلية، توقف مروان أمام بائعة حسناء تاركًا كل الشنبات ليسألها عن سلعة يريدها، كانت فتاة فارعة الطول، ممشوقة القوام، بيضاء هيفاء، لمحتها تعيد تعليق شرشف، فتوجه إليها فاحتجبتُ خلف أحد الرفوف، تبًا عرف هذا المتزوج التعيس من يسأل، لو كنت مكانه لسألت أقرب شنب. اقتضت هذه المرافقة التوقف أمام رفوف الطاولات والمطابقة بين أسعارها قديمًا وحديثًا، وكذلك التوقف أمام السكاكين والمقارنة بينها بعين رب منزل متمرس، وأخذ جولة على المفارش واختيار واحد غير أبيض كي لا يتسخ، مرافقة رجل متزوج إلى أسواق كهذه سيوقفك أمام رفوف لا تعني لك الآن كثيرًا، ولكن تعلم أن الحال سيؤول بك إلى هنا فاستعد.

عرش بلقيس والبطاطس المقلية:

 بعد رفوف السكاكين مررنا بجوار أريكة مفردة صفراء في زاوية لونها أخضر ضارب إلى السواد، كجدرانها، كانت الأريكة قطعة من الدهشة ولو كانت كعرش بلقيس لحُق لها ملك رقاب اليمنيين وأرضهم، ربما الفرق أن الأريكة خالية من الجواهر والفصوص، قعدت عليها قليلًا، ولو كان عندي قيمتها لاشتريتها غير آبه بأين سأضعها، جمع في كيسه ما يريده حتى اقتربنا من الكاشير فتذكر الثرامس التي يريدها، ولم يضعها فيه حينها لأنها في بداية المعرض، وظن أنه سيجدها، عدنا أدراجنا معاكسين السير إليها فأخذ واحدة أو اثنتين وتوجهنا إلى الكاشير، وسبقته إلى لوح الشوكلاته.

محطتنا التالية هي البلد، الأسواق الشعبية القديمة القريبة من جدة التاريخية، طرق مرصوفة بالحجارة الرمادية الناتئة قليلًا، وعلى اليمين والشمال محالات لون أبوابها أسود، وعلى لوحاتها لمبات بيضاء مشعة تميل إلى الزرقة، ولأن الليلة جمعة فكثير من المحلات مغلقة، كان همي الوحيد هو شراء بطاطس مقلية والتهامها، زرنا دكاكين كثيرة، حتى وصلنا إلى صديقه له هناك فانطلقا معًا، وتوقفت إلى رجل وابنه يبيعان البطاطس والبليلة، الرجل في مطالع الأربعينات حنطي اللون، مربع الرأس له عوارض أكثر شعرها أبيض انسحبت منه الصبغة السوداء وبقيت آثارها، يردتي نظارة، وابنه في الحادية عشر أو دونها، عليه ثوب كحلي، ولحسن حظي وجدت بطاطس جاهزة وساخنة إلى حدٍ مقبول، اشتريته منه وطلبت وضعها في كيس، ثم أغرقتها بالشطة والحمر والثوب والفلفل الأخضر والكاتشب، والتهمتها التهامًا. أكشاك البطاطس من معالم البلد الرئيسية، ففيها من اللذة ما ليس فيها غيرها من أصناف الأطعمة والمقليات، ومن ذاق عرف ومن عرف اغترف، ومن اغترف أدمن، وعلى المعاند أن يذوق مزيج الحمر مع الفلفل الأخضر؛ وإذا لا يرقص من اللذة فإنه فاسد المزاج ليس له علاج ولا حول ولا قوة إلا بالله.

 على آخر لقمة جاء مروان مع صديقه عبد الله، وقرر الأول تناول العشاء ودخلنا في مفاوضات لاختيار المطعم، كان يشتهي معصوبًا ومطبقًا فاقترحت مطعم جدة، وهو مطعم يعد معصوبًا لا نظير له في الشرق والغرب، ولو اجتمع العالم الأول في معمل واحد ما استطاعوا محاكاته، ولكن قرر الرجل الذهاب إلى أقرب فرع لأبو زيد ورضخت أو هكذا بدا لأن البطاطس أشبعتني، وحقيقة ليس في هذا المطعم ما يغري بزيارته، فلا المعصوب لذيذ ولا المطبق موزون ولا الفول في الصميم، أطباقه متوسطة. يحكى من القصص عن أبو زيد ما يحكى عن القرموشيـ هما مطاعم يعتمدان على الفرانشايز، لذا من الطبيعي تباين الجودة بين الفروع.

في سبيل المزاج:

 بعد أن فرغا من الطعام توجهنا إلى الشقة لاصطحاب صديقنا أبو عابد، وكانت الوجهة قهوة قرب دوار الدراجة، في تلك الليلة كان الجو ربيعيًا، نسائم دافئة، آخر ليالي الشتاء،، لها مدخلان، من اليمين والشمال، تنقسم القهوة إلى قسمين سفلي وهو امتداد للأسفلت، وعلوي كانه مصطبة ارتفاعها متر ونصف، وتنشتر طاولات حمراء حولها مقاعد بلاستيكية بلونها، ويحيط بالمصطبة الشجر من ثلاث جهاتـ والرابعة غرف للزبائن، إنها محمية للكيف وسط الغابة التي تلتف حول أشجارها حبال مضيئة، عرض المصطبة ثلاثة أمتار أو أقل، طولها أضعاف هذا، ربما عشرين إلى ثلاثين مترًا، ويحف القهوة شدو أم كلثوم ويحضن الزائرين، تبث الطرب بروية، فلا ينتبه الزائر إلا وقد غاص فيه، أو اعتادت أذنه على صوتها فلا يزعجه. ينتشر في الأجواء بعض الضباب بنكهات مختلفة، تتداخل الأصوات ولكنها تبقى تحت سيطرة النغم الكلثومي، ثمة أصابع تلقي بالنرد وترتسم ابتسامة على شفتين رجل يقابله آخر يتنهد، هكذا المشهد حتى يدوي صوت ارتطام أحجار الدومينوز بالطاولة كسمفونية تفرض نفسها بقوة، أعذب صوت بعد صوت انسكاب الشاي في الأكواب، وحبذا لو اشتعلت سيجارة بالقرب منك، ويزداد الأمور جنونًا، لو لُعبت في الظلام تحت ضوء البدر وأكواب الشاي تدور بلا غلمان مخلدين.

هنا كان محمود تراوري:

على تلك المصطبة يمسك قهوجي شاب بأرجيلة ويهرول كأنه ممسك بحربة يتحين فرصة ليصيب بها مزاج الزبون، على آخر المصطبة رجل يرفع رأسه لينفث دخانًا بقوة، أعطس من أرجيلة الضيف، بدأت أشعر أن أكلثوم تصرخ كالمجنونة، وأنا أستعيد اللحظات التي قابلت فيها الصحفي والروائي محمود تراوري قبل عام، لقد كان حفيًا بي، تحدثنا عن الكتابة والأدب وعن فايز أبّا، ورأيته معه نصوصًا نادرة لقاص ما، أذكر أنه قال هذه القهوة لفايز أبا المترجم المعروف أو أنه يأتي هنا، وأخبرني عن صاحب النصوص الذي عاش حرًا مستعصمًا بفنه، كنا نجلس بين المغرب والعشاء، حتى رفع الأذان وأهداني عملين له هما جيران زمزم ومجموعة قصصية وشاهما بتوقيعه، واستأذنته في قراءة روايته ميمونة من نسخة PDF ثم صعد سيارته وذهب، في الجهة المقابلة من المصطبة كنا نجلس نحن الثلاثة على أول طاولة كانت شاغرة، استقبلنا قهوجي يمني ملامح مصري اللهجة، وطلب منه الضيف أرجيلة وأنا سحلب وأبو عابد عصير حبحب، وبينما يقف الرجل مرّ شاب في الـ١٨ له حظ من الوسامة  يعمل في هذه القهوة، يقول له الضيف ضاحكًا: أمس كان واحد يبغى يتصور معك، هكذا قال، ضحك الشاب ضحكة فيها خجل وعُجب، رأيت في يده منشفة عودية اللون، بعد سيره إلى عمله جاءت طفلتان كالفل معهما لبان، شاكست إحداهما الأخرى لتبعدها عن زبائنها المحتملين، ثم عادتا معًا، سوريتان أو أفغانيتان. تريد إحداهما ان تبيع علي لبان بخمسة ريالات، وبالقوة أفحلت محاولاتي في صرفها، جاءت الأرجيلة، بعد قليل أبصرت الضيف يؤرجل بعينين حولاوين، منتشٍ من هذا المعسل الرديء، تبًا لمزاجك يا رجل، فرغ من الرأس بعد أن مص روحه مصًا، فسبقته أنا وأبو عابد إلى السيارة والطفلة الأفغانية تطاردنا، وهو يحاول إبعادها برفع صوته فلم يفلح فهددها بكلب مربوط في سيارته، ومازلت تطاردنا، وفي لحظة عادت راكضت إلى القهوة يبدو أنها تجاوزت المسافة التي يجب عليها أن تبقى فيها، ضاع جسدها في الظلام كما ضاع ويكيندي في غير ما كنت أتمنى!