الكتاب الأبيض
كاتبته: هانغ كانغ

محتواه: نصوص

لغته: الكورية

ترجمه إلى العربية: محمد نجيب



           البياض الذي حمله كتاب

إنها المرة الأولى التي أتم فيها كتابًا وأشرع في الكتابة عنه مباشرة، إنها المرة الأولى التي أبحث فيها عن أثره في داخلي، أبحث عن خيوطه البيضاء، عن حلقات من دخانه الأبيض، عن ظلال بيضاء، عن ندف ثلج أو طبقة تشبه غزل البنات، طبقة تذوب عندما تمشي عليها قدم ثم تجدد نفسها بسرعة، عن كلمة حفرت جدولًا صغيرًا، عن الهامش الذي أرغمتني الحياة على العيش فيه، أقاوم الألم مرة وأهرب منه مرات كثيرة، وأستسلم له مرات أكثر.

ليست هذه كتابة عن الكتاب، وليست قراءة عن الوحدة والغربة فيه، وليست مراجعة له ولا نقدًا ولا أي شيء آخر سوى السباحة مع تيار ما = للوصول إلى نقطة بعيدة ومراقبتها دون مساس، اقتراب حذر كي لا أترك أثرًا، كما يراقب الباحث تجربة دون تدخل مع رغبة جامحة في التأثير.

وأنا أقرأ الكتاب صرت أرى اللون الأبيض بعين مختلفة، لم يعد الأبيض هو رمز للنقاء، أو تجلٍ شفيف للصفاء، صرت أرى الأوراق البيضاء، الملفات البيض، أثار الطلاء الأبيض على الأثاث، النقطة البيضاء في ظفر بنصري الأيسر، الكوب البلاستيكي الفارغ جوار الشاشة، قطرات الماء المستترة في قاعه، أرى البياض هو الغياب هو أن لا نترك أثرًا في الأمكنة التي نعبر بها أو الحيز الذي نحيا فيه، في أراض تمحو الحياة ما نتركه باللون الأخضر، بالعشب، بالأشجار المتسلقة بالرطوبة التي تحبسها الأوراق ثم تتحصن بها كي تحميها من أنفاس الفضوليين.

إن الكتاب الأبيض لا يمحو كالأرض بل يمحو كالسماء، تدوِّن الكاتبة ما مرت به بعمق الأبيض، بندف الثلج، بقماط الطفل ، تسأل لماذا ماتت أختها الكبرى وهي في عالم الغيب، ماذا لو كانت لها أخت كبيرة؟ تذاكر لها، تنزع الشوكة من قدمها، تعيش معها.

 تكتب هانغ عن الطقوس البوذية في إحراق الأثواب البيضاء لتلبسها روح الوالدين التي تحلق في مكانٍ ما، ثم تسأل لماذا لا ترتدي الملابس وتعود مرة إليها.

على أريكتي كتابان أو ثلاثة، علم الاجتماع لأنتوني غدنز والثاني فتيان الزنك، كنت أريد الكتابة عن الكتاب الأبيض قبل القراءة في علم الاجتماع كي لا يهاجم اللون المعدني البياض الرقيق في داخلي، كي لا ينشب سبائكه ويطرد البرَد، ولا أريد بدء القراءة في فتيان الزنك حيث الدم الذي يفور من الرؤوس، والأطراف المبتور وذكريات الحرب والموت، أريد الحفاظ على البياض أطول فترة ثم الكتابة عنه، عن الرماد الأبيض التي حملته الكاتبة وشقيقها كي تدفنه في معبد على جبل هناك.

وأنا أقرأ الكتاب خطر على بالي العيش في كوريا الجنوبية حيث الحياة المادية الجيدة، حيث الوجوه البيضاء والعيون الضيقة والأجسام الأسيلة التي يخدشها النسيم، ومحاولتهم للتشبه بالرجل الأبيض، ومشارط الأطباء التي تشق الجلد لتغير الملامح وتعبر الجسد بنصلها، عن الرقصات والأضواء في الشارع التي تتلألأ في ليل سيول، اكتشفت في كوريا الجنوبية بلد الكاتبة شيئًا آخر غير التقدم التقني والطبي، اكتشفت جمالًا وأناقة في الكتابة، سأحب كوريا بعض الوقت، وقد أقرأ عنها، ويمكن أن أتحدث، ثم سأنساها كما ينسى الكتاب الأبيض الأيدي التي فتحته، وكما يسنى الجليد الاقدام التي عبرته، ينساها كأنه لم تعبر، كأنها لم تكن!